في تركيا للتاريخ معنى
صبحي شبانة (*)
زيارة تركيا هي رحلة عبر التاريخ، الذي يأخذك الى أزمان بعيدة، الى بلاد ومدن تعج وتمتزج بالتنوع الحضاري والثقافي والعرقي، والتعايش الإنساني، والوئام الاجتماعي عبر الحقب التاريخية المتعاقبة، كل الحضارات السابقة في تركيا حفرت بصماتها على الجغرافيا، وخلدت اثارها على صفحات التاريخ، وبسطت انطباعاتها على الوجوه التركية الباسمة التي تلقاك بحب ولهفة أينما ذهبت، وبترحاب وحنان حيثما حللت، وبرغم برودة طقس ديسمبر إلا أن زخم الدفء الإنساني يحتويك بلطف، وتداعبك نسماته برقة.
لم تصدمني في تركيا وحشة المدن، ولم أجد عناء هناك ولم أشعر بالغربة حين وطأت قدماي مدينة ديار بكر التاريخية، بوابة الإسلام في الأناضول، التي استوطنتها قبيلة ربيعة بن بكر بن وائل في زمن الخليفة الاموي معاوية بن أبي سفيان، في ذاك العصر الزاهر، قبل 1384 سنة، إبان الفتوحات الإسلامية،،، تتسم شوارع المدينة الحديثة، وأزقتها العتيقة بجماليات وفنون الهندسة المعمارية التي صبغتها بلون كل العصور، لترسم لوحة بديعة تجتذب عينيك وأنت في الطائرة قبيل الهبوط في المطار لتخرج بعد ذلك الى الشوارع الفسيحة التي تبهرك بسحرها وجمالها ونظافتها ونظامها كأنها لوحة جدارية نحتها الفنان التركي “عبد الله كوزغون أكار” لتعلق على جدران وأروقة المتاحف.
هناك في ضاحية المدينة يرقد 27 صحابيا شهيدا سقطوا في فتح ديار بكر، قبورهم متراصة في جامع سليمان، المسمى باسم الصحابي الشهيد سليمان بن خالد بن الوليد، تخلد بطولاتهم، هناك ترك العرب اساطير من البطولات وشواهد لاتزال حاضرة في المساجد والاضرحة، وصوت الاذان الذي يتردد صداه في ارجاء المدينة التي تكتظ مساجدها بالمصلين الذين يملؤونها في كل الصلوات، في تركيا للتاريخ معنى، وللأثار وظيفة.
في رحلة مفعمة بعبق التاريخ اصطحبني فيها الصديق الأستاذ إبراهيم كورت لعدة أيام مررت خلالها على حضارات دامت قرون طويلة، ومادت بعد ان هرمت وشاخت بفعل تآكل وتعاقب الحضارات، التي قامت على أنقاض سابقاتها، حتى بسطت الحضارة الإسلامية هويتها بعد أن ارست قيم التعايش بين هذا المزيج التركي الذي يتكون من اكثر من 32 عرق يعيشون ويعملون معا في وئام وسلام، الجميع يحيا تحت العلم التركي، ويتحدث لغة واحدة هي اللغة التركية في دولة يتجاوز تعدادها حاجز ال 85 مليون نسمة، يندر فيها ان تجد من يتحدث اللغة الإنجليزية اعتزازا منهم باللغة التركية، شأنهم في ذلك كل الدول الأوروبية التي يعتز مواطنيها بلغتهم في ايطاليا و المانيا و اسبانيا وفي باريس من الصعب ان تجد احدا من مواطني تلك البلدان من يتحدث اليك بالإنجليزية.
وفي مدينة حسن كيف التاريخية، البلدة الأثرية الواقعة جنوب شرق تركيا، التي تقع في أحضان نهر دجلة، استقبلني محافظ المدينة محمد علي امراك بحفاوة بالغة وهو شاب مفعم بالحيوية والطموح ويتسلح بالثقة والدوافع والحماس وهذه صفات بادية لا تحتاج الى عناء كي ألاحظها أو جهد كي استشفها، فالشعب التركي بفئاته واطيافه يعيش رغم الغلاء العالمي مشروعا تنمويا واقتصاديا واجتماعيا يضع الدولة التركية في مصاف الدول صاحبة الاقتصادات الواعدة، اذ سجل الاقتصاد التركي معدلات نمو مرتفعة تقدر ب 3.8% متجاوزا فاجعة الزلازل التي ضربت الأراضي التركية بعنف مطلع العام الجاري.
وعلى باب متحف حسن كيف الذي يعد واحدا من أكبر واهم المتاحف في العالم كان في استقبالي مدير عام الثقافة والسياحة بمحافظة حسن كيف احسان اصلانلي الذي لازال يحتفظ ببعض الكلمات العربية التي اكتسبها بعد زيارة طويلة الى مصر قضاها في القاهرة الذي يحمل في داخله ذكريات طيبة وجميلة عنها.
في داخل متحف حسن كيف يمكنك ان تستحضر وتتخيل التطور التاريخي والحضاري والمدني للحياة في الدولة التركية على مر العصور، حيث تراكم الحضارات، والثقافات، والأديان، والمعتقدات، والاعراق التي عاشت جنبا الى جنب في تلاقح حضاري أثرى الحياة في تركيا الحديثة.
وفي مدينة ماردين الجبلية التي تطل على سهول نهر الفرات وبها العديد من الديانات السماوية، ويتكلم سكانها العربية والتركية والكردية والسريانية قضيت ليلتين في فندق ماردين ذلك القصر العتيق الذي يعود بنائه الى 1400 عام مضت ومبني من الحجر بطراز معماري تقليدي ويتوسط المدينة القديمة وسط المحلات والمتاجر التي تستهويك بتنوع بضائعها التي ربما لن تجدها في مكان اخر من العالم.
الزيارة الى تركيا هي رحلة داخل كتاب الحضارة لمن أراد ان يضطلع على التطور التاريخي للحضارات الإنسانية، وهي سياحة لمن يستهويه التجول واستكشاف عالم يجمع بين كل الاطياف والاعراق في نسيج واحد، ويمزج بين الاصالة والمعاصرة والحداثة في مكان واحد، من يعشق التبضع فسوف يجد فيها ضالته حيث الأسعار التنافسية المغرية التي تستنفذ كل وقتك في التنقل بين متاجرها واسواقها، في تركيا سوف تجد العالم كله هناك.
(*) كاتب صحفي مصري .. مدير مكتب روز اليوسف بالسعودية