تجارة و أعمال

كوستو غاليري – معرض الموسيقى الليلية

دبي –  صحيفة  المؤشر الاقتصادي

تبدو “الموسيقى الليلية” الهادئة موضوعاً ملائماً لمعرضNocturne  المعتدل والمعبّر للفنانين كو جيونغ آي وتوماس ساراسينو في “كوستو غاليري” في دبي، الذي تم تنظيمه بالتعاون مع “غاليري بينكسمر” الذي يقع مقره الرئيس في جنوا في إيطاليا. فـ”الموسيقى الليلية” هي عبارة عن مؤلفة موسيقية شعبية راجت خلال حقبة الحركة “الرومانسية”، وهي ليست بالضرورة مثيرة للعواطف خلال الليل، بل هي تُطلق بهدف تحقيق ما يشبه الحلم في أجواء الليل الساحرة. الأعمال الفنية التي يقدمها كو جيونغ آي وتوماس ساراسينو، وكلاهما حالمان، أو بالأحرى صاحبا رؤى بامتياز، على الرغم من أنهما يجوبان آفاق إيقاع  يومي للحياة (كل يوم تقريباً)، فهي يبدو وكأنها تشير، في هذا المعرض، إلى السمة الزمنية للموسيقى الليلية، إذ أن القلب النابض للعرض محفوظ في خزانة الظلام.

إن البشر، مثل أي نوع آخر من الكائنات الحية كالحيوانات أو النباتات، يوجهون أنفسهم دائماً في كوكب الأرض، ليس فقط من خلال النظر إلى مسار الشمس الذي يمكن التنبؤ به، ولكن أيضاً السماء المزدانة بالنجوم التي تختفي الآن، إذ أننا نسرق عتمة الليل. هذه ليست “مفارقة” كالتي اقترحها هاينريش فيلهلم أولبرز (1758-1840) في العام 1826، بالانتقال من نموذج كوني يؤمن بكون لامتناهي وعالم متوحد الخواص، حيث تم توزيع النجوم بالتساوي، وبالتالي تساءل الطبيب الألماني وهاوي علم الفلك كيف يمكن لعتمة سماء الليل أن توجد، لأن عدد النجوم لا نهائي وأغلبيتها أكثر إشراقة من الشمس. 

واليوم، فإن “مفارقة” أولبرز هي غريبة، لأننا في البنية الكونية الحالية نعلم أن العالم محدود ومتوسع، وأن سرعة الضوء محدودة وأن سطوع بعض النجوم لم يصل لم يصل بعد إلى الأرض وربما لن يصل إليه أبداً، مثل تلك الماسات البعيدة التي ما زلنا ندرك روعتها، وقد توقفت بالفعل عن التألق في وقت بعيد. فالليل يختفي ببطء، ويُقدر أن 80% من سكان العالم يعيشون تحت سماء ملوثة بالضوء الاصطناعي، ما يجعل النجوم غير مرئية. هذا هو أحد أهم أشكال الاستخفاف بالتغير البيئي. 

إن ما وراء الظاهرة الباطنية، يشير إلى تناوب الضوء والظلام. وإذا توقف التسلسل عن التزامن بشكل جيد، فإن التوازن البيئي يتحطم. وعلى الرغم من أن الدراسات الحديثة نسبياً قد أثبتت أن تعديل التوقيت الضوئي يؤثر على تدفقات المتنقلة وطقوس المزاوجة ويغيّر العلاقات بين المفترس والفريسة ويبعثر أيضاً التركيب الضوئي للنباتات. ويؤثر التلوث الضوئي أيضاً على الأماكن غير الملوثة بشكل ملحوظ في وضح النهار، بالإضافة إلى العديد من المجالات الرئيسة للتنوع البيولوجي. إن اختفاء السماء المرصعة بالنجوم له أيضاً تأثير على الثقافة الإنسانية، مع الأخذ في الاعتبار أنه كان دائماً مصدر إلهام للفنانين والشعراء والمهندسين المعماريين والفلاسفة والموسيقيين.  

يعبّر الشاعر الإيطالي دانتي أليغيري (1265-1321) في كتابه الكوميديا الإلهية (Divina Commedia) عن ارتياحه لأنه ترك وراء ظهره الجحيم وهو يهتف “ومن ثم تطلعنا لرؤية النجوم مرة أخرى”؛ فقد عمل المهندسون المعماريون المصريون لإهرامات الجيزة بجد لتوافق الاصطفاف مع القطب الشمالي السماوي، بالنظر إلى النجم الشمالي، الذي كان في ذلك العام الأفلاطوني، في تسلسل اعتدالي (التساوي بين الليل والنهار) حيث كان “نجم الثعبان” في كوكبة مع “نجم التنين”. لقد توقفنا عن رسم الخطوط الوهمية مع السماء، فنافذتنا على الكون في وقت مختلف، حيث الماضي والحاضر والمستقبل، أكثر تماساً من تجريبية تحت القمر تمنحنا نظرة.    

يتتبع معرض Nocturne (الموسيقى الليلية) بنزعته العاطفية، خطوطاً وهمية مع ليلة مرصعة بالنجوم لإيقاظ بوصلتنا الداخلية، فنظام تحديد المواقع العالمي باطنيّ النشؤ الخاص بنا، حيث أن الضوء هو مزامن قوي مقارنة بالاهتمام بالمحيط، لتذكيرنا أن فهمنا للعالم معرّض للخطر – فنحن لا نولد

مشوشين، بل نصبح مشوشين. وبهذا المعنى يمكننا أن نفسّر، هذه المرة، مجموعات متعدد السطوح الاثنا عشري، فإن غيوم (Clouds) توماس سارسينو كشبكة مسدسة الأضلع تتكون من خلايا المكان والخلايا الشبكية، والتي سوياً في قرن آمون (الحصين) الخاص بنا، قد أجابت عن الأسئلة: أين أنا؟ ومن ثم أين أذهب؟

إن تفسير المنحوتات المغناطيسية من قبل كو جيونغ آي، مع التركيز على سير العملية – حتى قبل الانتهاء من العمل، فإن ذلك يُفترض أن يدعونا إلى التحلي بالمرونة وترك كل القسوة خلفنا بهدف التفاعل مع طاقة الحياة السحرية في العالم – والتي يمكن أن تجعلنا أفضل وأقل شعور بالوحدة.

وكما ترشدنا النظرية الروحية الحيوية، فإن دراسة السلوك في جمالها وفيلسوفها الذي يعرف كيف يدرج المشاكل في منظور عالمي: التغييرات، مهما كانت كثيرة مفاجئة، قد لا تعني بالضرورة التطور؛ فالتغير شيء، والتطور شيء آخر.

ففي هذا المعرض هنالك الرغوة (Foam) من ابتكار توماس سارسينو توضح لنا كيف أن الجغرافيا – حتى قبل علم الهندسة الكسورية للكون، تتبع خطة محددة – يمكن تكرارها في صغر فقاعة الصبون المحدودة والرائعة. ومن جهة أخرى، فإن عدم الثبات يساعدنا على النظر إلى الأمور كما هي، والامتناع عن إصدار الأحكام. ومع ذلك، تخبرنا رسومات كو جيونغ آي المصنوعة بالليزر في الزجاج، أنه في الحياة يجب عليك اكتشاف طاقة السطح من أجل الوصول إلى مستوى العمق.

كما أن رسومات كو جيونغ آي التمهيدية بصورة منتزه تزحلق على شكل فقاعات OooOoO (https://www.triennale.org/eventi/oooooo/) التي تم تقديمها أخيراً في متحف ترينالي دي ميلانو –                           La Triennale di Milano (https://www.triennale.org/) قد عُرضت أيضاً في المعرض. ويبدو أن هذه الأعمال الفنية تشير إلى أنه في الحياة عليك أن تمارس رياضة التزحلق حتى تتمكن من الطيران من دون أجنحة، وتجد الجمال والشعور بالتوجيه حتى في المناطق الحضرية الأكثر هامشية.

وإذا أمعنا النظر في أعمال توماس ساراسينو، فسوف نجد أن منحوتته Ring Bell Helios هي أشبه بطائرة ورقية قد أدركت أنها تطير وتدهشنا في الهواء بألوان طيفها. ويعتقد الطبيب اليوناني أبقراط أن الهواء النقي هو أول غذاء ودواء للبشرية.

فقد نجح بالون الهواء الساخن Aerocene Pacha الذي يعمل بالطاقة الشمسية بالكامل وهو من بنات أفكار ساراسينو في التحليق فوق بحيرة Salinas Grandes Salt في الأرجنتين في نهاية شهر يناير الماضي. ورفع البالون شخصاً في السماء إلى علو 272,1 متر لمدة ساعة و21 دقيقة (https://aerocene.org) باستخدام الشمس والهواء الذي نتنفسه فقط. وهذا يدل على أن الفن حتى خارج المتاحف يعرف كيف يشير إلى الأقطاب السماوية، مثل بولاريس وأوكانتيس من السنة الأفلاطونية الحالية.

إن الإيقاع اليومي والهواء هما العنصران اللذان يلهمان Calendrier Lun (Air) الخاصية بساراسينو، وهو ما يذكّرنا بتمثيل الدورة القمرية. وقد تم التوصل إلى هذه النتيجة بالتعاون مع وكالة “إير باريس”، التي تراقب تلوث الهواء في العاصمة الفرنسية على مدار اليوم. فهذه الدوائر الصغيرة لخطوط الورق الرقيقة تجسد كثافة الغبار الملوث.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الليل، ولكي يظهر في روعته، يحتاج إلى التحفيز المضيء مثلما هو الحال في العتمة، كما أن المحاكاة في هذا المعنى هي اللوحات الكبيرة لثورة التصوير الضوئية لـ Seven Stars من إبداعات كو جيونغ آي، والتي من أجل رؤيتها، تحتاج إلى كل من الضوء والظلام، حيث تنتج الغدة الصنوبرية السيروتونين أثناء النهار والميلاتوثين أثناء الليل، ما يحافظ على توازننا سليماً.

كما أن التعامل مع السماء والنجوم ولكن أيضاً مع توقيت 163.000 سنة ضوئية بواسطة ساراسينو، يظهر عمر الكون في إطارين محددين (2019 و2020) كما لو كانا تسلسلين لفيلم لأن كل واحد في تدفق الكون الذي يحتوي دائماً على القليل من السابق والتالي. يبدو أن الكونية أصبحت لا تزال ثابتة إلى الأبد.

أخيراً، في العتمة وفي الضوء، فإن خيوط حريرية وتعاونية من خيوط العنكبوت الهجينة المتفاعلة والنابضة بالحيوية لساراسينو، هي غريبة مثل العناكب التي تنسجها، ورائعة مثل جوقة الكون الممتازة.

كملاحظة ختامية وإيجابية، فإن مدينة توكسون في آريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية بسكانها البالغ عددهم 600.000 نسمة، قد استعادت سماءها المرصعة بالنجوم لتوفير الطاقة والمال، وذلك ببساطة، عن طريق الحد من النفايات وتحسين جماليات الإضاءة الحضرية، والتطلع إلى منظور جديد للطاقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى